الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهكذا جعل الخالق عز وجل آلة العقل هذه، لا لنعربد بها في الكون، إنما لنضبط بها الغرائز والسلوك، ونحرسها من شراسة الأهواء، فيعتدل المجتمع ويسْلَم أفراده.وإلاَّ فإذا سمحتَ لنفسك بالسرقة، فاسمح للآخرين بالسرقة منك!! إذن: فمن مصلحتك أنت أنْ يوجد تقنين ينهاك، ومنهج يُنظِّم حياتك وحياة الآخرين.والحق سبحانه يقول: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}.نلحظ هنا أن موسى عليه السلام يعرض على فرعون قضايا لا تخصُّ فرعون وحده، إنما تمنع أنْ يوجد فرعون آخر.وقوله: {مِنْهَا} [طه: 55] أي: من الأرض التي سبق أنْ قال عنها: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا} [طه: 53].ثم ذكر لنا مع الأرض مراحل ثلاث: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} [طه: 55].وفي آية أخرى يذكر مرحلة رابعة، فيقول: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25].بذلك تكون المراحل أربعة: منها خلقناكم، وفيها تحيَوْن، وإليها تُرجعون بالموت، ومنها نُخرجكم بالبعث.فقوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55] الخلْق قِسْمان: خَلْق أولي، وخَلْق ثانوي، الخلق الأَوليّ في أدم عليه السلام، وقد خُلِق من الطين أي: من الأرض. ثم الخَلْق الثاني، وجاء من التناسل، وإذا كان الخَلْق الأَوْلي من طين، فكل ما ينشأ عنه يُعَدّ كذلك؛ لأنه الأصل الأول.ويمكن أن نُوجِّه الكلام توجيهًا آخر، فنقول: التناسل يتولد من ميكروبات الذكورة وبويضات الأنوثة، وهذه في الأصل من الطعام والشراب، وأصله أيضًا من الأرض. إذن: فأنت من الأرض بواسطة أو بغير واسطة.وإنْ كانت قضية الخَلْق هذه قضية غيبية، فقد ترك الخالق في كونه عقولًا تبحث وتنظر في الكون، وتعطينا الدليل على صِدْق هذه القضية، فلما حلّل العلماء طينة الأرض وجدوها ستة عشر عنصرًا تبدأ بالأكسوجين، وتنتهي بالمنجنيز، وحين حلّلوا عناصر الإنسان وجدوها نفس العناصر الستة عشر، ليثبتوا بذلك البحث التحليلي صِدْق قضية الخَلْق التي أخبر عنها الخالق عز وجل.وقوله: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55] هذه مرحلة مشاهدة، فكُلُّ مَنْ يموت مِنّا ندفنه في الأرض؛ لذلك يقول الشاعر:
فبعد أن تُنقض بنية الإنسان بالموت لا يسارع إلى مواراته التراب إلا أقرب الناس إليه، فترى المرأة التي مات وحيدها، وأحب الناس إليها، والتي كانت لا تطيق فراقه ليلة واحدة، لا تطيق وجوده الآن، بل تسارع به إلى أمه الأصلية الأرض.وذلك لأن الجسد بعد أنْ فارقته الروح سرعان ما يتحول إلى جيفة لا تطاق حتى من أمه وأقرب الناس إليه، أما الأرض فإنها تحتضنه وتمتصُّ كل مافيه من أذى.ومن العجائب في نَقْض بنية الإنسان بالموت أنها تتم على عكس بنائه، فعندما تكلم الخالق عز وجل عن الخلق الأول للإنسان قال: إنه خلق من تراب، ومن طين، ومن حمأ مسنون، ومن صلصال كالفخار. وقلنا: إن هذه كلها أطوار للمادة الواحدة، ثم بعد ذلك ينفخ الخالق فيه الروح، فتدبّ فيه الحياة.فإذا ما تأملنا الموت لوجدناه على عكس هذا الترتيب، كما أنك لو بنيتَ عمارة من عِدَّة أدوار، فآخر الأدوار بناءً أولها هَدْمًا.كذلك الموت بالنسبة للإنسان يبدأ بنزع الروح التي وُضِعَتْ فيه آخرًا، ثم يتصلّب الجسد ويشضب كالصلصال ثم يرمّ، ويُنتن كالحمأ المسنون، ثم يتبخر ما فيه من ماء، وتتحلل باقي العناصر، فتصير إلى التراب.ثم يقول تعالى: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} [طه: 55] أي: مرة أخرى بالبعث يوم القيامة، وهذا الإخراج له نظام خاصّ يختلف عن الإخراج الأول؛ لأنه سيبدأ بعودة الروح، ثم يكتمل لها الجسد.هذه كلها قضايا كونية تُلْقَى على فرعون عَلَّها تُثنيه عَمَّا هو عليه من ادّعاء الألوهية، والألوهية تقتضي مألوهًا، فالإله معبود له عابد، فكيف يَدّعي الألوهية، وليس له في الربوبية شيء؟ فلا يستحق الألوهية والعبادة إلا مَنْ له الربوبية أولًا، وفي الأمثال: اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي. اهـ.
خفاهن ودق من عشيّ مجلب يذكر الفرس أنه استخرج الفأرة من جحرهن كالمطر، ثم قال: {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} يعني: لتثاب كل نفس بما تعمل: ثم قال عز وجل: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} يعني: لا يصرفنك عنها، يعني: عن الإقرار بقيام الساعة {مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} يعني: من لا يصدق بقيام الساعة {واتبع هَوَاهُ فتردى} يعني: فتهلك، ويقال: الردى الموت والهلاك، ثم رجع إلى قصة موسى عليه السلام.فقال عز وجل: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى موسى} يعني: أي الشيء الذي بيدك، وكان عالمًا بما في يده ولكن الحكمة في سؤاله لإزالة الوحشة عن موسى، لأن موسى كان خائفًا مستوحشًا كرجل دخل على ملك وهو خائف فسأله عن أي شيء فتزول بعض الوحشة عنه بذلك ويستأنس بسؤاله، وقال بعضهم: إنما سأله تقريرًا له أن ما في يده عصًا لكيلا يخاف إذا صار ثعبانًا {قَالَ} موسى {قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا} يعني: أعتمد عليها إذا أعييت {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِى} يعني: أخبط بها ورق الشجر لغنمي، فإن قيل إنما سأله عما في يده ولم يسأله عما يصنع بها فلم أجاب موسى عن شيء لم يسأله عنه؟ قيل له: قد قال بعضهم: في الآية إضمار يعني: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى موسى قَالَ هِىَ عَصَاىَ} فقال وما تصنع بها قال: {قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ} وقال بعضهم: إنما خاف موسى بذلك لأنه أمره بأن يخلع نعليه، فخاف أن يأمره بإلقاء عصاه، فجعل يذكر منافع عصاه فقال: {قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ} {وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أخرى} يعني: حوائج أُخرى وواحدها مأربة، وقال مقاتل: كان موسى يحمل زاده على عصاه إذا سار، وكان يركزها في الأرض فيخرج الماء، وتضيء له بالليل بغير قمر، فيهتدي على غنمه.وروى أسباط عن السدي قال: كانت عصا موسى من عود شجر آس من شجر الجنة، وكان استودعها إياه ملك من الملائكة في صورة إنسان، يعني: عند شعيب، وقال علي بن أبي طالب: كانت عصا موسى من عود ورد من شجر الجنة اثني عشر ذراعًا من ذراع موسى.قوله تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا ياموسى موسى} يعني: ألق عصاك من يدك فظن موسى أنه يأمره بإلقائها على وجه الرفض، فلم يجد بدًا {فألقاها فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى} يعني: تسرح وتسير على بطنها رافعة رأسها، فخاف موسى وولى هاربًا {قَالَ} الله تعالى لموسى: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاولى} يعني: سنجعلها عصًا كما كانت أول مرة وأصل السيرة الطريقة كما يقال: فلان على سيرة فلان، أي على طريقته، وإنما صار نصبًا لنزع الخافض، والمعنى: سنعيدها إلى حالها الأولى، فتناولها موسى فإِذا هي عصًا كما كانت، ثم قال عز وجل: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} قال الكلبي: الجناح أسفل الإبط، يعني: أدخل يدك تحت إبطك {تَخْرُجْ بَيْضَاء} لها شعاع يضي كضوء الشمس {مِنْ غَيْرِ سُوء} يعني: من غير برص {أخرى لِنُرِيَكَ} يعني: علامة أُخرى مع العصا {لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى} يعني: العظمى، ومعناه: لنريك الكبرى من آياتنا ولهذا لم يقل الكبريات لأنه وقع المعنى على واحدة.ثم قال تعالى: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى}، يعني: علا وتكبر وادعى الربوبية، أي: اذهب إليه وادعه إلى الإسلام.{قَالَ} موسى عليه السلام: {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى}، يعني: يا رب وسع لي قلبي حتى لا أخاف منه، ويقال: لين قلبي بالإسلام حتى أثبت عليه، {وَيَسّرْ لِى أَمْرِى}؛ يعني: هون علي ما أمرتني به، {واحلل عُقْدَةً مّن لّسَانِى}؛ يعني: ابسط العقدة أي: الرثة من لساني {يَفْقَهُواْ قَوْلِي}، يعني: يفهموا كلامي.وذلك أن موسى عليه السلام في حال صغره رفعه فرعون في حجره فلطمه موسى لطمة، ويقال: أخذ بلحيته ومدها إلى الأرض، فقال فرعون: هذا من أعدائي الذين كنت أتخوف به، فقالت امرأته آسية بنت مزاحم: صبيّ جاهل، لا عقل له ضع له طستًا من ذهب وطستًا من نار، حتى نعلم ما يصنع.
|